الفن

وفاة سهام السبتي… صوت أمٍّ عراقية حمل ملامح بغداد حتى آخر لحظة

أربيك
arabic

لم تكن وفاة الممثلة العراقية سهام السبتي، مساء الثالث عشر من تشرين الثاني 2025، مجرّد خبر عابر. في التفاصيل الهادئة التي تخرج من سيدني، حيث أغلقت عينيها بعيداً عن الأزقة التي صنعت ذاكرتها، تبدو الحكاية أثقل من قدرة أي متابع على التعامل معها كواقعة فنية فقط. رحلت امرأة حملت بغداد في صوتها، وفي طريقة وقوفها أمام الكاميرا، وحتى في نبرة العتب التي اشتهرت بها شخصياتها.

فقدت السبتي حياتها في بلادٍ لم تختَر أن تكون آخر محطاتها، لكنها صارت كذلك بفعل سنوات الغربة الطويلة. ومع ذلك، ظل حضورها الفني أقرب إلى بيوت العراقيين من كثير ممن بقوا داخل البلاد.

بدايات من الشواكة… وصوت جيتار يقود إلى المسرح

ولدت سهام سبتي هرمز في بغداد عام 1942، وسط عائلة مندائية عُرفت بارتباطها الوثيق بالفن. خاضت طفولتها بين مدارس باب السيف في الشواكة، ثم انتقلت مع أسرتها إلى لبنان لسنوات قليلة قبل العودة مجدداً إلى قلب العاصمة العراقية.

كان الجيتار شغفها الأول. لم تتخيل أنها ستقف على المسرح كممثلة، إلى أن صادفت إعلاناً في معهد الفنون الجميلة يبحث عن ممثلات من الأقسام الأخرى. تقدّمت للاختبار بتردد، وخرجت منه ممثلة شابة تحت عين الأستاذ جعفر السعدي الذي فتح لها باب الفرق المسرحية. بعد أشهر، وجدت نفسها على خشبة مسرحية “جان دارك”، ثم في الفرقة الشعبية، وفي عملٍ تلو آخر.

كانت تلك السنوات بداية رحلة طويلة لم تعتمد على الحظّ بقدر ما اعتمدت على مثابرتها في كل دور.

أم غانم… حين تتحول الشخصية إلى ذاكرة بلد

ما إن يُذكر مسلسل “تحت موس الحلاق” حتى تكتمل الصورة فوراً: الحلاق حجي راضي، عبوسي، والمشهد الذي يقرأ فيه الحاج رسالة أم غانم.
ذلك المشهد لم يكن مجرد “لقطة”، بل لحظة شكلت ذاكرة اجتماعية كاملة للعراقيين. أدت السبتي دور الأم العجوز وهي ما زالت شابة، لكنها امتلكت القدرة على خلق طبقة صوت وانحناءة كتف تكفيان لإقناع المشاهد بأن العمر مجرد إطار.

تحولت العبارة التي ردّدتها “أه ديكي نحباني للو” إلى ما يشبه المثل البغدادي، تُستعاد للتندر والعبرة معاً، وبقيت علامة خاصة ارتبطت باسمها حتى آخر أيامها.

من المسرح إلى السينما: حضور لا يختبئ خلف البطولة

لم تعتمد السبتي على بطولة مطلقة لتترك بصمتها. كان وجودها في أي عمل، حتى لو بدا دوراً ثانوياً، يحمل أثراً واضحاً.
قدمت في السينما أعمالاً منذ ستينيات القرن الماضي، بدءاً من فيلم “أوراق الخريف” وصولاً إلى “عمارة 13” عام 1989. كانت أدوارها تميل نحو الشخصيات الطبيعية التي يمكن أن تراها في حياة يومية، بعيداً عن المبالغة أو التجميل.

وعلى المسرح، وقفت في أعمال عديدة مثل “بيت أبو كمال” و”المصيدة” و”الأرض والعطش والناس”، حيث صنعت سمعة صلبة عن ممثلة لا تخشى الانتقال بين الأدوار ولا تتردد في خوض تجارب صعبة.

الغربة… ظلال ثقيلة وضرورة قاسية

عام 1999، غادرت العراق تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي فرضها الحصار. لم يكن القرار سهلاً، فهي واحدة ممن ارتبطوا بالوسط الثقافي كارتباطهم بالهواء. لكن السفر إلى الأردن ثم الانتقال إلى أستراليا عام 2005 أصبح واقعاً لا مهرب منه.

هناك، في القارة البعيدة، حاولت أن تبقى قريبة من جمهورها. قدمت أعمالاً إذاعية ثم عادت إلى المسرح عبر مسرحية “الرسالة الثانية إلى حجي راضي” عام 2007، وكأنها تحاول أن تعيد ربط خيوط الماضي بالحاضر.

لكن الغربة تبقى غربة، مهما بدا شكلها أقل قسوة. وفي نهاية الطريق، رحلت بعيداً عن الوطن الذي ظلّ اسمها مرتبطاً به.

جوائز تثبت حضوراً لا يحتاج إلى تذكير

لم تكن سهام السبتي تبحث عن الجوائز، لكن الجوائز هي التي أتت إليها.
حصلت على تقديرات من وزارة الثقافة، ومن مؤسسات مسرحية عراقية، ومن مهرجانات تلفزيونية. وكانت دائماً تُذكر في كواليس الوسط الفني بأنها ممثلة “تعطي أكثر مما يُطلب منها”، وهي شهادة غالباً لا تُمنح بسهولة.

رحيل يترك فراغاً يفوق حدود الفن

الموت في الغربة يمسّ الذاكرة بشكل مختلف. حين يرحل فنان عاش في الوجدان الشعبي، يبقى سؤال واحد معلقاً: هل عرف كم ترك في الناس من أثر؟
من يشاهد أعمالها اليوم يدرك أن سهام السبتي لم تكن مجرد ممثلة أدت دور الأم، بل امرأة حملت صورة هذه الأم في مخيلة العراقيين لأجيال.

رحلت بصمت، لكن إرثها لم يرحل معها. بقي في الضحكة التي يطلقها العراقي حين يسمع عبارة من “تحت موس الحلاق”، وفي الطريقة التي اندمجت بها في شخصياتها دون صخب.

تمت مراجعة هذا الخبر وفقًا لسياسة التحرير الخاصة بـ أربيك.
arabic

زر الذهاب إلى الأعلى