
ألقيتُ حقيبته البالية على الأرض، وحدّقتُ في الصبي ذي الاثني عشر عاماً بعيون باردة، مطفأة.
قلت له بهدوءٍ جافّ:
«اخرج. لستَ ابني. زوجتي لم تعد هنا — ولا أجد سبباً يجعلني أواصل رعايتك. اذهب حيث تشاء.»
لم يبكِ.
لم يتوسّل.
اكتفى بأن خفَض رأسه، والتقط حقيبته القديمة ذات الحزام الممزّق، وغادر بصمت — دون أن ينطق كلمة واحدة.
وقتها كنتُ أظن أنني أنهيتُ عبئًا لا أكثر. لم أشعر بالذنب. بل نوع من الارتياح الغامض، كما لو أن شيئًا ثقيلاً أزيح عن صدري.
بعد وفاة زوجتي طردت ابنها من البيت
ماتت زوجتي فجأة بنزيف دماغي، تاركةً إيّاي وحيداً مع طفلٍ في الثانية عشرة.
لكنه لم يكن ابني.
كان ثمرة قصة حبّ عاشتها قبل أن تعرفني — ماضٍ لم تُبح به لأحد.
ربّته وحدها، وعاشت له، وعندما دخلتُ حياتها، كان كل ما طلبته أن أقبله معها.
قبلت.
أو ظننتُ أنني قبلت.
لكن الحقيقة أنني لم أفعل.
كنتُ أعتني به بدافع الواجب، لا بدافع الحب.
ولما رحلت هي، لم يعد هناك ما يُجبرني على الاستمرار.
ولذلك، حين طردته، لم أكن أرى في فعلي قسوة، بل “واقعية”.
بعتُ البيت القديم، وانتقلتُ إلى مدينة أخرى. انشغلتُ بعملي. ازدادت أرباحي.
بعد عامين تزوجتُ من امرأة أخرى — بلا أبناء. كنتُ أرى في ذلك راحةً وعزاءً من حياةٍ فوضوية مضت.
في بعض الليالي، كنت أتساءل بخفةٍ باردة:
أين ذهب ذلك الصبي؟
هل يعيش في الشوارع؟ هل وجد مأوى؟
ثم كنتُ أُسكت السؤال قبل أن يكتمل.
ليس شأني.
ومع مرور الوقت، نسيت ملامحه. نسيت صوته. نسيت كل شيءٍ عنه.
حتى جاء ذلك اليوم.
رنّ هاتفي في مساء خريفي هادئ.
صوتٌ شابّ، مهذّب، قال:
«مرحباً، سيّدي؟ هل يمكنك حضور افتتاح معرضٍ فني هذا السبت؟ هناك من يتمنى كثيراً أن تكون موجوداً.»
كنت على وشك أن أعتذر، لكن قبل أن أغلق الخط، قال:
«ربما يهمّك أن تعرف ما الذي حدث للطفل الذي تخلّيتَ عنه قبل عشر سنوات.»
تجمّدت.
لم أجد ما أقول.
طلبتُ عنوان المعرض، دون أن أعرف لماذا.
جاء السبت.
دخلتُ قاعة صغيرة مضاءة بنورٍ أصفر خافت، جدرانها مُغطّاة بلوحاتٍ كثيرة.
تقدّمت بخطواتٍ مترددة.
في كل لوحة، كان هناك وجه طفل — في عينيه حزنٌ عميق، وفي ملامحه صمتٌ مألوف.
وفي الزاوية البعيدة، لفتتني لوحةٌ كبيرة:
رجلٌ يقف أمام بابٍ مفتوح، وطفلٌ صغير يغادر، يحمل حقيبةً ممزقة.
لم أكن بحاجةٍ لقراءة العنوان.
كان المشهد ذاته، كما حدث تماماً قبل عشر سنوات.
شعرتُ بالدوار.
اقترب مني شابٌّ طويل القامة، بملامح هادئة.
كان في أواخر العشرينات.
حين نظر إليّ، عرفتُه فوراً — هو.
قال بابتسامةٍ صغيرة:
«سررتُ بحضورك، أبي.»
تجمّدت الكلمة في الهواء بيننا.
رددتُ بصوتٍ متحشرج:
«أنا… لم أكن… لم أقصد أن—»
قاطعني برفق:
«أعرف. لم أقصد دعوتك لتعتذر. أردت فقط أن أراك، لأقول شكراً.»
نظرت إليه مذهولاً.
«شكراً؟ على ماذا؟»
«على أنك طردتني. لو بقيتُ معك، ربما ما كنتُ اليوم أقف هنا.
بعد أن خرجتُ من بيتك، أمضيتُ أسابيع في الشوارع. ثم التقطني رجلٌ يعمل في ورشة نجارة. علّمني المهنة، ثم شجّعني على الرسم.
كان أول من قال لي: “يدك ترى أكثر مما ترى عيناك.”
ومن يومها لم أتوقف عن الرسم.»
أشار إلى اللوحات حولنا.
«كل هذا… بدأ من تلك اللحظة. كنتُ أظنها نهاية، لكنها كانت بداية.»
لم أستطع الكلام.
أحسستُ أن صدري يضيق.
اقتربتُ خطوة، قلت بصوتٍ مبحوح:
«هل يمكنك… أن تسامحني؟»
نظر إليّ طويلاً، ثم قال:
«سامحتك منذ زمن. لأنني أدركت أن الحقد لا يبني شيئاً. لكن… الغفران لا يعني أنني نسيت.»
ابتسم ابتسامةً باهتة، ثم أدار وجهه نحو أحد الزوار الآخرين.
تركني واقفاً بين الناس، أمام اللوحة التي تحمل صورتي وأنا أطرده.
وقفتُ هناك طويلاً.
حتى أطفؤوا الأنوار.
حتى بقيتُ وحدي تقريباً.
ولأول مرة منذ عشر سنوات، شعرتُ بثقلٍ حقيقي في صدري —
ثقل الندم.
ندمٌ لا يمكن أن يُصلَح، ولا يمكن أن يُنسى.
ومنذ ذلك اليوم، أزور كل معرضٍ له بصمت.
لا أتحدث إليه. لا أقترب.
أكتفي بأن أقف بعيداً، أحدّق في لوحاته،
وأتمنى — بكل ما تبقّى فيّ من حياة —
لو أستطيع إعادة الزمن إلى الوراء.
🔗 هذا المقال نُشر أولًا في أربيك
المصدر: pagearabic[dot]com





